حدث قبل خمس سنوات
لا أدري هل هي صدفة ربانية أم أن الأقدار لابد أن تؤدي دورها ،العلمي، في بلاد النمسا وفي عاصمتها الجميلة فيينا ، كنت أمشى في جنبات شوارعها النظيفة و انظر إلى العمارة الرائعة للهندسة النمساوية القديمة ، و أروح نفسي في هذا الصيف الملتهب في بلادنا الطيبة ، أمتع نظري بالزخارف الرائعة للمباني الجميلة ، وارى الناس تمشي مرحة فرحة ممسكة بأيدي بعضها البعض ، و صدى الضحكات تملؤ الدنيا ، و جمال الطبيعة يحيط بالمكان و قد اكتملت بحلاوة الجو و بشاشة النسيم الهادئ ، وجمال الوجوه المبتسمة ، و فجأة من بين جميع الضحكات ، و من بين جميع الكلمات و الأحاديث ، شدتني نغمة كلام أعرفها جيدا ، و ضحكات طالما أحيت فيني روح الحياة ، وأعطتني دافعا لمقاومة تصاريف الحياة ، نعم ضحكات لا أنساها مهما كانت الجموع و مهما كانت الظروف ، صوت سهرت على سماعه ، وضحكات طالما أيقظتني من منامي على صوتها عبر الهاتف .
والتفت ناحية الصوت وهناك كانت المفاجأة ، بل كان الموقف الذي زاد من إيماني بتصاريف القدر الإلهي ، فهناك و من بين جنبات طاولة المقهى كانت جالسة ، وتملؤ الجو بنغمات عذبة من ضحكاتها و جمال صوتها ، و كأن الزمن توقف ليعيد إلي ذكريات خمسة أعوام مضت ، حين كنت طالبا في الثانوية العامة و في السنة النهائية .
أذكر حينها أنني كنت أدرس و أجتهد و أناضل ساعات الدراسة لكي أحقق حلمي الأكبر ، كانت أمنيتي أن أخطبها بعد تخرجي من الثانوية ، وان نتزوج بعد أن انهي دراستي الجامعية ، لقد وعدني والدي بذلك ، ووالدي رجل كلمة و مواقف ، ووعدني وعد حر أن حصلت على مجموع جيد أن تكون خطبتها هي هدية نجاحي و تفوقي ، وكان التحدي ، كلما خرجت من بيتنا بعد زيارتها لأختي كنت أقوم باستجواب أختي عن أحوالها وأخبارها ، و كل من في البيت يعلم أنها ستكون هدية نجاحي بإذن الله ، وهي كانت تعلم بذلك لكون أختي قد أخبرتها بقصة الهدية فزاد ذلك من المودة بيننا ، وأصبحت أختي كالحمام الزاجل تحمل برسائل المودة بيننا ، حتى جاء اليوم الذي سمعت فيها صوتها العذب و ضحكاتها الجميلة عبر هاتف غرفتي ، و كانت أجمل لحظاتي و أفضلها .
ومرت شهور الدراسة و كنت قد بلغت من الاجتهاد و المثابرة حدا جعلني أوقن أنني أن لم أكون الأول على مستوى الأمارة ،فأنا الأول على مستوى مدرستي ، و كان والدي رحمه الله يعاملني معاملة الرجال ، و كان يعلم جيدا ما الذي يفعله ، و جاء اليوم الموعود و ظهرت نتائج الثانوية وكانت المفاجأة المتوقعة 99.6 % الأول على مستوى المدرسة و الرابع على مستوى الدولة القسم العلمي، وأوفيت بوعدي و جاء دور والدي ليفي بوعده .ذهبنا في ذلك اليوم قبل خمسة أعوام إلى منزل ذويها ، مصطحبا والدي رحمه الله و أخي الأكبر و عمي وخالي لخطبة هدية تفوقي .
والدها رجل واقعي يؤمن بما يراه أمامه و لا ينظر إلى الأمام ، يحب أن يعيش لحظاته في حينها ، لذلك حين طلبنا يد ابنته ، لم يكن رافضا للفكرة و لكن كان يظن أن الوقت لم يحن بعد ، وان علي أن انتظر حتى انهي دراستي الجامعية و أن أعمل من كد جبيني ، و ليس اعتمادا على ثروة والدي رحمه الله ، و كان محقا في رأيه ، إلا أن والدي رحمه الله كانت رؤيته ابعد فحاول أن يقنعه بالخطوبة حتى يتسنى لي الزواج بعد التخرج ، و لقد وفيت بوعدي في الثانوية لأجل الخطوبة فكيف لو كان لأجل الزواج ، و لكن والدها أصر على رأيه و قال : "البنت بنتكم والولد ولدنا و أن شاء الله يكونون من نصيب بعض ، بس لازم الانتظار و بعد العمر جدامهم طويل" . لم يكن أبي رحمه الله من النوع الذي يجادل و يماطل و إنما خير الكلام ما قل و دل .
و عندما عدنا إلى البيت قال لي والدي : " يا ولدي أنا حاولت إني أوفي بوعدي لك لكن هذا شي مو بإيدي ، لكن الريال ما رفضك لكن ينتظرك إتخلص دراستك ، و أنا أثق فيك لكن الريال عنده حق ، و أن شاء الله إذا الله عطانا عمر هي بتكون من نصيبك" . لا أدري حينها لماذا شعرت بأن العمر لن يمهل والدي طويلا وان بفقدانه سأفقد كل شي حتى هديتي .وأذكر أن أختي كانت تخبرني أن هديتي كانت تتمنى لو وافق والدها على الخطوبة ، ولكن تصاريف القدر الإلهي لم تكن تتوافق معنا.
بعدها خرجت في بعثة دراسية نحو الولايات المتحدة و أثناء دراستي وصلني نبأ وفاة والدي رحمة الله فرجعت إلى وطني الحبيب لأزرع في جوفه جسد رجل قل الزمان أن يجود بمثله ، رحم الله والدي ، وعدت إلى الولايات المتحدة لأكمل دراستي و كانت أختي ترسل إلي بأخبارها وأخباري حتى بعد أن تزوجت أختي ، كانت بين الحين و أِخر ترسل إلي أخبارها ، حتى وصلني خبر كأنه خبر وفاة والدي رحمه الله ، أن هديتي قد خطبها رجل أخر وان زواجها سيكون خلال أسبوع .
و عدت إلى وطني لأحمي حبي و حلمي ، وذهبنا إلى والدها بصحبة أخي و عمي ، واستقبلنا استقبال طيبا ، و كان يعلم سبب مجيئنا فكان الجواب حاضرا : " يا ولدي هذه قسمة و نصيب ، و الله سبحانه يقدر الأرزاق ، وانت ريال بعدك أول الطريج وبتحصل غيرها " . " و لكنك وعدت والدي الله يرحمه يا عمي ".”أدري يا ولدي لكن والدك اتوفى ، وهذا اللي إتقدم لها إنسان خلوق و جاهز يا ولدي و حرام احرمها منه علشان انت بعدك ما خلصت " . لم يكن يفيد في الكلام شيئا و كأن الرجل قد اتخذ قراره و لن يغيره ، و هكذا دفنت في وطني الحبيب مرة أخرى حبي و حلمي لأعود إلى الولايات المتحدة و أحصل على شهادتي و بتفوق ، وعلمت أنها قد تزوجت و ذهبت إلى بيت زوجها .
و شاءت الأقدار الربانية بعد فراق خمسة أعوام أن أراها في هذا المكان الذي يبعد ألاف الأميال و هي التي كانت تجاور بيتنا بضع مترات ، ياترى هل نسيتني ؟ لا أدري ؟ اقتربت قليلا لأملأ ناظري منها ولأتأكد منها ، و بالصدفة رأتني و كأنها رأت شبحا أو حلما راودها منذ زمن بعيد ثم أختفي ، و التقت عيوننا وكان في بريق عينها كلمات كثيرة و أحاديث عديدة تود أن تفصح لي عنها و لكن لا تستطيع ، و فجأة خرق صوت ناعم لطفل صغير يهرول نحوها قائلا : "ماما ماما شوفي بابا أشترى لي أيس كريم" . و صرفت بعينها ناحية الطفل الصغير و حضنته ورمقت ببصرها نحوي ، و كأنها تقول : "وددت انه أبننا" لكن
ات للأقدار أن ترجع إلى الوراء و تعيد الزمن ، و ظهر زوجها من محل القهوة حاملا أيس كريما و قدمها إليها لتأكله ، و لم أرد أن أحرجها أمام زوجها فعبرت ماشيا محاولا السير بجانبهما سريعا و عندما تجاوزت المكان سمعت كلمة علمت أنها لم تنساني أبدا و أني مازلت حلمها البعيد وأنها لم تجعلني في طيات الماضي السحيق لقد قالت : "(خالد) لا إتخيس ثيابك بالأيس كريم يا ولدي
منقول